طوال الشهور الفائتة، وبعد فترة وجيزة من إصدار أداة الذكاء التوليدي الأكثر تقدُّماً على الإطلاق ChatGPT 3.5 بواسطة شركة أبحاث الذكاء الاصطناعي OpenAI، لا حديث للعالم سوى عن الذكاء الاصطناعي ولا صوت يعلو فوق صوت الجدل المستمر حول الذكاء الاصطناعي. أحدَث أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي ضجَّةً عالميةً كُبرى، وانقسمت الآراء حولها بين من يرى أنها ستوفِّر للبشر فرصةً لزيادة إنتاجيتهم وتقليل ما يبذلونه من جهد في أداء أعمالهم، وبين آراء أكثر تطرّفاً ترى أنها ستقود إلى فقدان الوظائف والتسبب في اضطرابات اجتماعية كُبرى بل ودفع الجنس البشري إلى الانقراض في نهاية المطاف كما يرى الملياردير إيلون ماسك!
على مرّ التاريخ، تميَّز مجتمع التصوير، بتقبُّله للنقلات التكنولوجية التي حدثت منذ ابتكار أول كاميرا في مطلع القرن التاسع عشر. فقد انتقلنا من الكاميرا الفوتوغرافية الصندوقية البدائية إلى كاميرات الفيلم المحمولة الأصغر حجماً، ومن الكاميرات الفوتوغرافية إلى كاميرات الفيديو، ومن الكاميرات اليدوية إلى الكاميرات الأوتوماتيكية إلى الكاميرات الرقميّة، وصولاً إلى الكاميرات عديمة المرآة والمُسيَّرات (الدرونز). فهل سيكون الذكاء الاصطناعي مجرد مرحلة جديدة وتطوُّر جديد في عالم التصوير؟
في السطور التالية نحاول تسليط الضوء على الأثر الذي قد يُحدِثه الذكاء الاصطناعي وأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي في عالم التصوير. حيث نبدأ باستعراض كيف يُمكِن للذكاء الاصطناعي المساهمة في أتمتة معالجة الصور، ثم ننتقل إلى دوره في رفع جودة الصور، ونستعرض مسألة الصور المُولَّدة عن طريق الذكاء الاصطناعي والجدل المستمر الدائر حولها، وأخيراً نحاول الإجابة عن سؤال: هل الذكاء الاصطناعي يُشكِّل خطراً على التصوير وعلى المصورين؟
أتمتة معالجة الصور
واحدة من المجالات الهامة التي يُستخدم فيها الذكاء الاصطناعي -منذ سنوات طويلة في الواقع وقبل ظهور ChatGPT- هي زيادة قدرة وحدات المُعالَجة الموجودة في الكاميرات الرقمية وكاميرات الهواتف النقّالة على معالجة الصور واختيار أنسب أوضاع التصوير لتصوير مشهد أو عُنصر معين.
الوضع الأوتوماتيكي (Auto-Mode) الموجود في أغلب كاميرات DSLR والكاميرات عديمة المرآة وكاميرات الهواتف النقّالة يستخدم في الحقيقة نوعاً من الذكاء الاصطناعي لضبط فتحة العدسة وسُرعة الغالق والـ ISO وتوازن الأبيض بناءً على البيانات التي تصل إلى مُعالِج الكاميرا عن المشهد الذي يجري تصويره عبر الحسَّاسات العديدة التي تضمّها الكاميرا.
أيضاً ثمّة ميزات عديدة موجودة في الكاميرات منذ سنوات طويلة تُعتبر أنواعاً من الذكاء الاصطناعي، مثل تقنيات التعرُّف على الوجوه (Facial Recognition)، والتعرُّف على البيئة (Environment Recognition) وضبط البؤرة أوتوماتيكياً (Autofocus).
الجميل في الأمر أن قُدرات الذكاء الاصطناعي تتطوّر يوماً بعد يوم، وتُصبح أكثر ذكاءً في اختيار أفضل الإعدادات للحصول على أفضل صورة ممكنة للمشهد. ويُمكِن ملاحظة هذا بشكل خاص في عالم كاميرات الهواتف النقّالة، حيث تشكَّلت في السنوات الأخيرة حلبة تنافس شرس بين الشركات التي تُسيطر على سوق الهواتف الذكية مثل آبل وسامسونج وشاومي وغوغل على تقديم أفضل تقنيات معالجة الصور في هواتفها، وأضحت المنافسة على جودة كاميرا أي هاتف تتعلّق أكثر بقدرات معالجة الصور فيه وليس بحسّاس CMOS المُستخدم في الهاتف (الذي تُنتِجه شركة أخرى في الغالب وقد يُستخدَم في طرازات متعددة من شركات مختلفة، في 2022 مثلاً، تمّ تصنيع قرابة 65% من حسّاسات كاميرات الهواتف النقّالة بواسطة شركتي سوني وسامسونج).
الجانب السلبي: زيادة تدخّل أنظمة الذكاء الاصطناعي في “تحسين” الصور يُعيد الجدل بشأن ما هو تعريف “الأحسن”؟ ولماذا يجب أن يكون ثمّة معيار واحد للصورة الأفضل؟ ومن الذي يضع هذا المعيار؟ وهل ستكون كل صورنا “موحَّدة” مستقبلاً إذا ما ازداد تغلغل أنظمة الذكاء الاصطناعي في تكنولوجيا الكاميرات؟ وأين سيذهب الإبداع الفردي حينئذٍ؟ وكيف سيتمكَّن كل مصور من تقديم أسلوبه وبصمته ولمسته الإبداعية الخاصة؟
كل هذه الأسئلة يجري طرحها الآن بالفعل بين مجتمعات المصوِّرين والمهتمين بالتصوير، ومع ازدياد تدخُّل أنظمة الذكاء الاصطناعي في صناعة التصوير، سيزداد الاستقطاب حول هذه الموضوعات.
إحدى القضايا ذات الصلة التي جلبت ضجّة إعلامية كبيرة كانت ما عُرف باسم قضية “تزييف القمر” التي اتُّهِمت فيها شركة سامسونج باستغلال صور للقمر تم التقاطها بواسطة تلسكوبات وكاميرات متقدِّمة ودمجها مع الصور التي يلتقطها المستخدمون للقمر بواسطة كاميرات هواتف سامسونج جالكسي خاصتهم.
بعد الضجّة التي أُثِيرت بسبب هذه القضية، اضطرت سامسونج لنشر توضيح تفصيلي لتبرئة نفسها من اتهامات التزييف. رغم ذلك، لم يتسبب الردّ سوى في زيادة الجدل حول استخدام الذكاء الاصطناعي في عمليات المُعالَجة اللاحقة المتقدمة للصور، وحول الحدود التي يجب أن يتوقّف عندها استخدامه.
رفع جودة الصور
من المجالات الأخرى التي شهدت تغلغلاً كبيراً لتقنيات الذكاء الاصطناعي، وتحديداً، تقنيات التعلُّم العميق، مجال تحسين الصور ومقاطع الفيديو وتصحيح عيوبها. وصلت بعض هذه التقنيات إلى مستوىً متطوِّر جداً يسمح لها على سبيل المثال بتلوين الأعمال الفنية القديمة التي تمّ تصويرها بالأبيض والأسود، سواءً كانت ألبومات صور أو أعمالاً سينمائيةً أو تلفزيونيةً، أو رفع جودتها وتنقيتها وترميمها (تحسين مستوى التفاصيل وزيادة الحدّة) لإعادتها إلى حالة أقرب إلى حالتها الأصلية قبل أن تؤثِّر عوامل الزمن عليها.
مثل تلك المهام، قبل عقد واحد من الزمان فقط، كانت تتمّ بشكل يدوي أو بالاستعانة بتقنيات حاسوبية بدائية كانت تتطلَّب أيضاً الكثير من العمل اليدوي. الآن أصبح بالإمكان إسناد تلك المهام إلى خوارزميات الذكاء الاصطناعي، والحصول على نتائج أفضل وبالطبع بتكلفة أقل كثيراً ﻷن تلك الأدوات لا تتطلَّب تدخلاً بشرياً يُذكر.
الصور المُولَّدة عن طريق الذكاء الاصطناعي
ما لم تكن تعيش في جزيرة معزولة، فقد سمعت على الأرجح بـ DALL-E، تلك الأداة الساحرة القادرة على توليد صور بناءً على وصف نصي يُدخِله المستخدم. تُنتج أدوات توليد الصور عن طريق الذكاء الاصطناعي صوراً آسرةً ربما لا يكون من السهل -حتى على متخصِّص- التفريق بينها وبين الصور المُلتقَطة بواسطة كاميرا؛ مثلما حدث في مسابقة سوني للتصوير الفوتوغرافي 2023، عندما قدَّم المصور بوريس إلدغسن صورةً بالأبيض والأسود لامرأتين تحمل اسم “سودومنيجيا: ذا إلكتريشن” (الصورة أدناه) فازت بالجائزة الأولى للمُسابقة، ثمّ أعلن بعد ذلك أنه قام بتوليد الصورة عن طريق الذكاء الاصطناعي، ورفض تسلُّم الجائزة.
يُثير توليد الصور عن طريق الذكاء الاصطناعي الكثير من النقاشات المُحتدِمة، فهو على جانب يُثير خوف الكثير من أعضاء مجتمع التصوير ممَّا يرونه مستقبلاً قاتماً لوظائفهم وأعمالهم، ومن ناحية أخرى يرى فيه العديد من الأشخاص والشركات وسيلةً سهلةً وقليلة التكلفة للحصول على الصور للأغراض المختلفة.
كما تُثير تلك التقنية جدلاً كبير حول إمكانية استخدامها في توفير قدر من المصداقية للأخبار الكاذبة، أو التشهير بالآخرين. ويُطالب الكثيرون حكوماتهم بالبدء في وضع التشريعات المُنظِّمة لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل يضمن تجريم إساءة استغلال تلك التقنيات الوليدة.
هل الذكاء الاصطناعي خطر على التصوير؟
في بداية المقالة تسائلنا هل سيكون الذكاء الاصطناعي مجرد تطور تكنولوجي جديد في عالم التصوير؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلم هذه المقاومة الشديدة التي يُبدِيها البعض تجاهه؟ في الواقع قُوبِلت تقنيات جديدة عديدة في مسار تطور التصوير برفض شديد في بداية الأمر، لكنه جرى تقبُّلها في النهاية المطاف. نذكر منها مثلاً:
- عندما قُدِّمت الأفلام الناطقة في عشرينيات القرن الماضي للمرة الأولى، قُوبِلت برفض شديد من مُنتجي ومُمثِّلي الأفلام في تلك الحقبة (كان تشارلي تشابلن واحداً من رافضيها بدعوى أنها تفتقر إلى القيمة الفنية الموجودة في الأفلام الصامتة). لكن في نهاية المطاف تقبَّلت صناعة السينما تلك التقنية وأصبح من غير المُتخيَّل طرح فيلم صامت في السينمات اليوم.
- قُوبِلت الكاميرات الرقمية بمعارضة شديدة بين المصورين المحترفين في بداية الأمر، وكان لهذا الرفض أسبابه الوجيهة، إذ كانت جودة الصور التي تُقدِّمها لا ترقى لمستوى كاميرات الفيلم في بدايات طرحها في الأسواق، في تلك الفترة الانتقالية ظلّ استخدام الكاميرات الرقمية مقتصراً على أغراض التصوير المنزلي. لكن مع مواصلة الشركات تحسين تكنولوجيا الكاميرات الرقمية وزيادة كفاءة حسَّاساتها، تخلى المصورون عن كاميرات الفيلم وانتقلوا إلى الكاميرات الرقمية بسبب سهولة استخدامها وتكلفتها الزهيدة وكفاءتها وأيضاً جودة الصور التي تُنتِجها، وبعد ذلك انتقلت صناعة السينما بشكل شبه كامل اليوم إلى الكاميرات الرقمية بعد أن عارضتها لفترة طويلة.
- منذ ظهور أول كاميرا عديمة المرآة في 2008، تشكَّلت مقاومة كبيرة تجاهها بين أوساط المصورين المحترفين، ولا يزال العديد منهم حتى اليوم يرفضون استبدال كاميرات DSLR بالكاميرات عديمة المرآة، رغم تقدُّم تكنولوجيا تصنيعها ومضاهاتها لكاميرات DSLR وميزاتها الإضافية التي تشمل الحجم الأصغر والوزن الأقل وقلة الأعطال. السبب الرئيسي لرفض الكاميرات عديمة المرآة هو عدم احتوائها على فتحة تصويب بصرية (Optical Viewfinder)، حيث يرى العديد من المصورين أنه لا غنىً عن مشاهدة الصورة في الوقت الفعلي وبانعكاس الضوء الحقيقي قبل التقاطها، وأن فتحة التصويب الرقمي لا تكفي أبداً.
فهل ستكون مقاومة استخدام الذكاء الاصطناعي في التصوير مؤقتةً؟ وهل سيتقبله مجتمع المصورين في نهاية المطاف كما تقبل العديد من التقنيات قبله؟ أم أن الذكاء الاصطناعي يختلف عن عن أي تطور حدث قبلاً وهو فعلاً خطر على عالم التصوير؟ الإجابات عن تلك الأسئلة ليست سهلةً وتتطلب العديد من النقاشات المُعمَّقة الصريحة. لكن من المؤكد أن الذكاء الاصطناعي يحمل الكثير من الإمكانيات للمصورين، وأنه سيُساعد الكثيرين على رفع جودة إنتاجهم، وتقليل الوقت والجهد المطلوبين للحصول على الصورة.
في فوتولت، نُقدّم مجموعة متنوعة من الدّورات التّدريبيّة للأفراد المُهتمّين باكتساب الخبرة في مجال التّصوير على أيدي مُتخصّصين رفيعي المُستوى، تتميّز برامجنا التّدريبيّة بالتّركيز على الجانب العمليّ في تعلّم التّصوير وكُلّ ما يتصل به من استخدام للكاميرات، وتعلّم كيفيّة ضبط إعداداتها بشكلٍ صحيح، ومبادئ الإضاءة، واستخدام إكسسوارات التّصوير، واستخدام برامج تعديل الصّور والمونتاج المرئيّ.